يوم أمس، لم يكف لساني عن التلعثم و الدوران ، ولم تكف أناملي عن مداعبة أغصان و وريقات أشجار عمرها من عمر هذا الوطن. تحدثنا عن كل شيء، عن السياسة و الساسة، عن الإستعمار و الإستحمار، عن النساء و مكرهن، عن الأطفال ماضيا حاضرا و مستقبلا. تحدثنا عن كل شيء، كما يتحدث كل أب مع إبنه.
كانت الشمس خافتة و السماء مظللة ببعض الغيوم العابرة، كان يوما مثاليا لجمع الزيتون، و لإستذكار الأيام الخوالي حين كانت هذه الأرض تعج بنا عجا ، و السماء تتردد في أرجائها أصداء ضحكاتنا و ضجيج صراخنا. لكن بالأمس لم يكن هناك من أحد غيري أنا و أبي. لم تتغير الصورة كثيرا عما كانت عليه منذ ثلاثين سنة، حين كانت يداي الصغيرتان متشبثتان بخصر أبي محاولتان عبثا أن تمسكا ببعضيهما البعض، لم يتغير صوت الدراجة النارية كثيرا و أنا مستلق على ظهر أبي، مهدهدة إياي، راحلة بي إلى عالم من الأحلام. نفس تلك الأيادي تمسكت بخصر أبي و نفس تلك الأحلام راودتني و أنا محتم وراء ظهر أبي.
لم أكن أطيق الكلاب و لا كانت هي تطيقني، لم تتغير مشاعرنا المتبادلة و لم تتبدل في الرغبة في قضم أذن أحدها. استذكرت مطاردتها لي قبل أن أصل إلى القريشة، ما زال نباح كلاب بن نيران و صراخ استغاثتي بأبناء عمي يتردد صداهما في أرجاء ذاكرتي ، و ما زال لعابها لزجا على جدرانها أستذكره بعد أن قبضت علي، لكنني إلى حد اليوم لم أفهم كيف لم تعمل في بأنيابها و كيف نجوت من موت محقق.
كان الضباب يعم الأجواء، و كنت من وراء أبي أستجمع ما يمكن جمعه من شتات طفولة غابرة، و أيام قضينا نهارها قافزين من غصن إلى غصن، و ليلها متحلقين حول نارها نستمع إلى ذكريات و قصص جدتنا أمي فاطمة أو مرفرفين حول لهيبها قافزين فوق جمرها، مرددين ما كنا قد حفضناه من أناشيد و أهازيج في رحلات و جولات المصائف. كنا نصرخ حتى الثمالة و نرقص حتى التخمة لتنهار قوانا و ننام مكدسين على بعضنا البعض فوق السدة، بعد سهرة الجنون.
لم أستفق من حلمي إلا على وقع صدم الدراجة و وقوعها في إحدى الحفر الممتلئة بها الطريق، لأرى عن بعد مكب النفايات الجديد الذي دشنته حكومتنا الموقرة، و لتهب على مسامات أنفي روائح هيبة الدولة التي لطالما بشرونا بعودتها.
راودني سؤال حينها : إن كانت الدولة هي الأصل، فهل كل أحلامي و ذكرياتي في هذا المكان و كل تلك الأزهار التي قطفناها و حبات الزيتون التي التقطناها و جمعناها، و الخرشف الذي اقتلعناه، و الفراشات التي ملأت ألوانها جدران ذكرياتي و اللهب الذي أشعل أجسامنا قوة، و ملأ قلوبنا دفئا. هل كل ذلك كان نشازا أمام هيبة الدولة.
هل أحلامي هي النشاز ؟ هل وطني هو النشاز؟
أم أن هذا المغتصب لأرض أحلامي، و لوطني؟ هذا المحتل الذي أطلق على نفسه اسم دولة و أسس لها حكومة بمباركة شعبية غبية في لعبة الديمقراطية هي النشاز …