في المكتبة

لم تطأ قدماي الأرضية الخشبية منذ حضور آخر حفل توقيع. تجولت في ردهات المكتبة، مقلبا الكتب المرصوصة على الرفوف ، مكتفيا بقراءة الملخص على الورقة الأخيرة من كل كتاب.

الإرهاب ، داعش، بن لادن، القاعدة…

كانت الرفوف زاخرة بهم وبما لف لفًهم من القراطيس الاستهلاكية والتسويقية. كانت الكلمات المقتضبة المكتوبة على آخر ورقة تلخص العشرين دينارا معدل سعر كل كتاب.

يبدو أن قدري هو أن أبقى على حافة الأحداث، دون أن أتعمق في معاني كلماتها. فوقع الأسعار النارية على نفسي له نفس الوقع لرصاص باردو والقنطاوي.

قرأت آخر ورقة من آخر كتاب إرهابي استهلاكي، لأتوجه لقسم الأطفال، مقلبا الكتب، مستلهما من دورا الرقة وآلو كيتي البراءة، وسبيادرمان الشجاعة، لكن كل تلك القيم سقطت وكل ذلك البريق في عيناي انطفأ حين تصفحت آخر ورقة من تلك الكتب، وقد وسمت جميعها بأسعار مشطة.

حقيقة لم أجد كيف أن براءة آلو كيتي تثمن بـثلاثين دينار، أو شجاعة سبايدرمان بعشرين دينارا خاصة وأن نفس تلك البراءة والشجاعة قد أجدها معروضة على أرصفة الطرقات بدينار أو اثنين في أقصى الحالات. تصفحت آخر صفحة للبراءة، لأتخذ لباب الخروج سبيلا بريئا نظيفا من جشع تجار البراءة.

في الطريق

سرت إلى جانب الطريق، مسرعا وقد ابيضت  قدماي من أثر الأغبرة والأتربة  المتراكمة على جانبي الطريق السياحي. كنت مسرعا، أحاول مجاراة سرعة نبضات قلبي وتراوح الصور والأفكار في مخيلتي، محاولا إيجاد طريقة لجعل آخر يوم لي أكثر سعادة وأكثر مرحا.

لم يكن  ليتجاوزني شيء

كنت الأسرع

كنت الأقوى

كنت الأذكى

كنت جائعا…

كانت روائح المأكولات تتوافد على أنفي ، عابقة من المطاعم المتناثرة على جانبي الطريق، وكأن  الطريق  لا يرصف على جانبيه غير المطاعم، وكأن كل مطعم تحول إلى عازف يعزف نوتة من موسيقى الرائحة والمذاق. كانت حاستي للشم المرهفة تتقبل النوتات وتحولها إلى كلمات وأسطر من الشهوات، لأنام في بحر من الشهوات والتهيآت لم يوقظني منها غير قرب وصولي إلى هدفي.

عند محطة الحافلات

وصلت أخيرا إلى محطة الحافلات، حيث وقفت منتظرا قدوما الحافلة المقلة لزوجتي وأبنائي، استندت بكتفي على الشجرة، مراقبا الحافلات القادمة وحركة المترجلين، مستمعا مستمتعا بصدى نفسي وهي تناجيني بأعذب الكلمات وأجنن الأفكار، ليخرج من رحم العدم، رجل معدم، تفوح من فيه مفخرة تونس والتونسيين والليبيين والجزائريين وجميع سكان البحر الأبيض المتوسط. اقترب مني حتى كادت شفتاه تلامس شفتاي وقد علت وجهه ابتسامة حمقاء

خويا يرحم ميمتك، أعطيني حتى دينار

نظرت إلى عينيه المتلألئتين من أثر احتسائه قارورة من الحجم العائلي (عائلة زبالة). لأجيبه

يرحم أمك وبوك، والعايلة الكريمة الكل، خويا تعطينيش حق ركوبي لمساكن، عندي ربع ساعة واقف تحت الشجرة نحاول ندبر راسي.

تقهقر خطوتان للوراء، وقد اختفت الابتسامة الحمقاء عن وجهه. لترتسم أخرى سخية كريمة.

نعطي لخويا، امالا لا، لوكان جا عندي نعطيك.

صمت  للحظة لتتراقص حدقتا عينيه متابعا

خويا، خوذ تريكويا امشي روح بيه.

محاولا نزع قميصه المتسخ.

أمسكت بيديه مانعا إياه من التعري، إلا أنه كان مصرا، ليبتعد عني محاولا إكمال عملية التبرع.

ولم يردع إلا حين قابلت جنون السكر بجنون الفكر.

إن نزعت قميصك فسأنزع قميصي وبنطالي،

شارعا في عملية التعري. لينقلب السحر على الساحر، وتنقلب الأدوار، ليحاول هو منعي، ولأعانده متشبثا في محاولتي للتعري، حتى لما استيأس مني، تركني متمتما بما لم أفهم، لاعنا السماء، متواريا في زحام الناس والحديد.

عدت متكأ على شجرتي، مستجمعا ما قد تبعثر من العقل في فوضى غابة الفقر، منظما هندامي، راجعا إلى تهيآتي وتخيلاتي، سائلا نفسي

ماذا لو أعطيته ما سألني، ماذا لو أعطيته دينارا، لن يضرك ذلك في شيء.

أنت لا تملك ذلك الدينار اللعين،

لكنك تملك أكثر

بلى، لكنها ورقتي الأخيرة…

وصول زوجتي وأطفالي

لم يدم جنوني طويلا، فقد حلت زوجتي العزيزة بطلعتها البهية مصطحبة معها أشرف ورنيم. لأعود لحالة عقلية تسمح لي بالتواصل معها . كنت قد وعدتها بالقيام بجولة مع الأطفال، جولة نتبع فيها عادة، وفي مثل هذه الفترة من الشهر، خريطة الطريق، مبتعدين عن المناطق الحمراء مكتفين بالترجل في المناطق الخضراء. لكن هذا اليوم، ليس ككل يوم، فهو اليوم الأخير، وكان علي أن أدع لجنوني العنان للتصرف. سبقتني زوجتي مع أشرف بخطوات متبعة ذلك الخط الوهمي للخارطة الذي رسخ في ذهنها لكثرة ما قد اتبعته، ولكثرة ما قد تواترت علينا الأيام والأشهر السود (شكرا وزارة التربية ولنقابة التعليم).

شققنا ساحة الشلي، مواصلين طريقنا أمام بنك التجاري، متجهة زوجتي ليمين الطريق، لأصيح عليها مستوقفا إياها، لتستدير وقد علت وجهها الدهشة حين رأتني إلى جانب سيارة الأجرة طالبا منها الركوب مع أبنائها في المقاعد الخلفية.

ركبت وألف سؤال يلفها ويهزها، خاصة حين سمعتني أطلب من السائق بذلك الصوت الجهوري الذي لا أستعمله إلا حين متأكدا وواثقا مما أقوم به، التوجه إلى نزل موفمبيك.

انطلق بنا السائق، الذي كان هو الآخر مستغربا، فلم نكن نحمل معنا حقائبا، كما لم تكن هيأتنا توحي بأننا من مرتادي النزل، خاصة بملابسي المغبرة من أثر المشي كامل اليوم.

كنت جاسا جانب السائق، معتدلا في جلستي، تعتلي وجهي ابتسامة رضا، ملتفتا بين الحين والآخر للخلف، لأجد زوجتي ما تزال في حالة دهشة، وأطياف الأحلام تحوم من حولها من قضاء يوم وليلة في نزل الأحلام، نزل الموفمبيك، يبدو أنها قد ربطت ما تعيشه من حلم يقظة بوعد قديم قد وعدتها لها بقضاء يوم ممتع بإحدى النزل، لكنها لم تتصور أنني سأفي بوعدي بالإقامة في نزل بضخامة الموفمبيك.

لم تكف رنيم عن طرح الأسئلة،

أبي، أين سنذهب،

هل هناك مسبح في النزل،

هل النزل قريب،

هل هو بعيد.

بينما اكتفى أشرف بإطلاق صيحات الفرح بين الحين والآخر كلما أجبت عن سؤال من أسئلة رنيم.

كانت عشر دقائق من الخيال العلمي، عشر دقائق استطعت فيها أن أتقاسم فيها زوجتي وأبنائي بعض الأحلام الوردية، وبعضا من الجنون. لم يكن خطئي أن كان النظام الذي يسير حياتنا قد خط لي خارطة أدرج فيها نزل موفمبيك منطقة حمراء ليس علي الاقتراب منها.

لكن الجنون تمرد، ثورة على المعتاد، على الحياة الطبيعية التي سطروها لنا، على قوانينهم البالية وصروحهم المتداعية، على تعاستهم المقننة.

عند نزل الموفمبيك

وصلنا أخيرا، أمام النزل.

وضعت يدي في جيب سروالي باحثا عن محفظة نقودي لأمد للسائق ورقة من فئة العشرين دينارا، الورقة الوحيدة الناجية من نيران الطمع والجشع البشري، الورقة الأخيرة التي استطاعت الاختباء طيلة شهر كامل دون أن يمسسها سوء، الورقة التي استطاعت أن تختفي بين ثنايا محفظتي متلونة كالحرباء لتكون كل شيء إلا ورقة عشرين دينار.

لقد كانت الورقة الأخيرة وحسب.

أرجع لي السائق الباقي، لأدفع له بقشيشا، أسوة بأبطال الأفلام والمسلسلات.

سادنا الصمت والهدوء لثوان ونحن واقفون أمام النزل نتأمل ضخامته وبهاءه. لأنظر في عيني زوجتي المبهورة موقظا إياها من حلم اليقظة.

عزيزتي، هل أعجبتك المفاجأة؟

ردت علي وقد تلألأت عيناها ببريق من الفرح و الغبطة

طبعا يا عزيزي، لم أكن أتصور مفاجأة بهذه الضخامة.

تبسمت، وضعت باقي الورقة الأخيرة في جيبي، أمسكت بيد ابنتي رنيم، ثم أعطيت ظهري لنزل الموفمبيك، وخاطبتها

عزيزتي، ليس أحب إلى قلبي من تناول ما لذ وطاب وأنا أنظر إلى الواجهة الأمامية لنزل الموفمبيك. أمسكي بيد أشرف، وحاذري من السيارات المارة.

لم تفهم زوجتي العزيزة الدعابة.

لم أفهم عزيزي

سنكتفي عزيزتي بالجلوس في المقهى المقابل، والنظر إلى نزل الموفمبيك

ألن ندخل للنزل؟

لا

لما قلت لسائق التاكسي بأن نتوجه لنزل الموفمبيك، إذا؟

لأنه الاسم الوحيد الراسخ في ذهني من هذا المكان.

يبدو أن زوجتي، فهمت المزحة أخيرا. لم تستسغها لبرهة. لكن في آخر المطاف عرفت الابتسامة طريقا إلى ثغرها.

جلسنا حول المائدة، فكهين، نتبادل النكات والضحكات، مستعذبين حلاوة الحلم، وإن كان مجرد مزحة.

كان في المقهى روضة مخصصة للأطفال، تعرف فيه أشرف على صديق جديد، ليشاركه اللعب بسياراته.

ابنتي رنيم، لم تسعها الروضة، خاصة بعد أن ازدحمت بالأطفال، لتطلب مني أن أصطحبها في جولة استكشافية للمنطقة. دخلنا المركب التجاري لتاج مرحبا، لتهرع رنيم للمصعد، لتتهلل أسارير وجهها فرحا حين تكتشف نافذة مطلة على نزل تاج مرحبا، وتجد في الأسفل مسبحا مفتوحا يعج عجا بالمصطافين كبارا وصغارا.

استهوتها رنيم فكرة التفرج على المسبح من فوق، لتنزل مشيا وتعود صاعدة على المصعد، مطلة برأسها من النافذة. أعادت الكرة مرارا وتكرارا متوسلة إلي في كل مرة على أن تكون هذه مرة هي المرة الأخيرة.

كنت أتبعها صعودا ونزولا، لكنها وبعد عدة محاولات قررت أن تتولى الأمور بمفردها، طالبة مني أن أبقى في الأسفل مكتفيا بالنظر إليها متوارية عن ناظري وهي صاعدة على المصعد بمفردها.

لم يكن قلبي مطمئنا رغم ابتسامتها التي رمتني بها وهي صاعدة إلى فوق، كنت أعلم أنها تضمر أمرا. لحقت بها بأسرع ما أمكنني، لأجدها قد خرجت من النافذة المطلة على نزل تاج مرحبا، ناظرة للمسبح، مستعدة للقفز من علو مرتفع لو لم ألحقها وأمسكها حاضنا إياها بكلتى يداي.

نزلنا وعدنا للمقهى، لأجد زوجتي منهمكة في الحديث مع أم صديق أشرف الجديد، وقد ازدانت المائدة بأشهى الأطعمة. جلسنا جميعنا حول الوليمة، متقاسمين الغنيمة، لأعطي النادل نصيبه من الورقة الأخيرة بعد أن أتممنا آخر قضمة، حاملين أغراضنا وشادين رحالنا.

 في الموفمبيك

قد تكون زوجتي قد استوعبت مزحة الموفمبيك، لكن رنيم  لم تفهم كيف وقفنا أمام النزل وعبرنا الطريق نحو الجهة المقابلة دون أن ندخل النزل ونتجول فيه. فقد طلبت مني عند مغادرتنا للمقهى الدخول لنزل الموفمبيك، صائحة ملحة في طلبها، طالبة أن تدخل للمسبح. لم أجد بدا أمام إصرارها وإلحاحها إلا تلبية طلبها، كما أنني أردت للمزحة أن تبلغ حد الكمال وذلك بالتجول في أرجاء الموفمبيك.

لم نجد صعوبة في الدخول رغم  بعض التراتيب والإجراءات الأمنية. دخلنا متجاوزين البهو لنخرج ونجد أدراجا أنزلتنا إلى مسبح مفتوح. كانت رنيم جد مندهشة من الألوان الزاهية و المتناسقة للمسبح ذو الزرقة القانية و ما حوله من أعشاب  خضر. حتى أنها أرادت أن تنزل للمسبح سابحة.

خرجنا من نزل الموفمبيك، والشعور بالنصر يملؤني، فقد أوفيت بوعد قديم كنت قد أطلقته لزوجتي بقضاء وقت ممتع في أحد النزل.

العودة

تجولنا قليلا في المنطقة السياحية، لأصرف ما قد تبقى من الورقة الأخيرة من مثلجات ومكسرات. ثم لنتوجه إلى دار الشريرة (اسم أطلقه أبنائي على رباط سوسة والمتحف). لدخول حفل فني، لأكتشف أن صفتي كأستاذ لا تخولني للدخول المجاني. كنا سنقدم لهم دعما معنويا بحضورنا خصوصا مع عدم تفرغ جيراننا الجزائريين للسياحة الثقافية بقدر ما هم متفرغون لسياحة البحر والمقاهي. كما أن المدرج كان فارغا إلا من بعض الذبابات التي طغى طنينها على طنين الفرقة.

انتهى آخر سطر من الورقة الأخيرة.

انتهى وعدنا إلى حياتنا آمنين.

منتظرين، صابرين، مرور شهر آخر من الأوراق التي لا قيمة لها.

منتظرين، مرة أخرى،  حلول ورقة أخيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.