أضربت و كنت من بين اللذين التحقوا بقاعات الأساتذة يوم الاضراب

كنت من بين المضربين لكنني لم أضرب لنفس الأسباب

لم تحركني مطالب الزيادة في الأجور. فالقناعة التي تربيت عليها كانت عقدا بيني و بين الفقر أحد أهم فصولها هو ألا فراق بيننا إلا فراق الموت.

لم تحركني. مطالب تجريم الإعتداء على المربي. ففي دولة تكون فيها إهانة الانسان عقيدة و قمع المواطن شريعة، يصيرمطلب تجريم الإعتداء على المربي ضرب من ضروب الفذلكة و الفكاهة .

لم تحركني مطالب إصلاح التعليم فالأيادي المرتعشة الغير قادرة على الهدم و القطع عن الماضي هي أعجز من تبني لثقافة جديدة . ثقافة البذل و العطاء

لم أتحرك لأي مطلب من المطالب المكتوبة على الورقة البالية التي مدني بها عضو النقابة . فلم يكن أي منها يتحدث عني أو يلمس الجرح الغائر في.

لم أضرب إلا لسبب واحد أرقني لأيام و شهور.

أضربت من أجل دورا.

نعم دورا و قردها موزو

أضربت كذلك لحقيبة ظهر دورا، و ما تحتويها من مفاجآت.

حقيبة الظهر التي كلما باحت بما فيها، انفرجت أسارير ابنتي و ارتسمت الفرحة على محياها – و لو لحين

لتمطرني بعد ذلك بمطلبها الأوحد و الوحيد، حقيبة دورا

فأرد عليها بفيض من الوعود، حقيبة دورا، و كل ما له علاقة بدورا، القرد اللعوب موزو، و البقرة الضاحكة بيني، و الثعلب الخبيث سنقر.

كانت تغمرها الفرحة و تتهلل أسارير وجهها بضحكات الأمل و السرور، فليس أحب إليها و أشرح لقلبها إلا الحديث عن دورا.

كانت تختلق القصص و المغامرات،

كانت تروي لي عن مغامراتها مع دورا في الروضة، و كيف كانتا تستكشفان معا الأماكن المحرمة. كانت تروي لي قصصا عن حب الله لدورا، و كيف أن السماء مملوءة بلعب و حقائب دورا، و أنها ستغلق باب الجنة من ورائها لكي لا يشاركها أحد في حب و لعب دورا.

كانت تختلق و تصور لي قصصا من نسج خيالها، لتطلب مني في آخر القصة حقيبة دورا.

منذ أشهر و ابنتي تروي لي القصص و المغامرات ، و منذ أشهر و هي تطلب مني أن أشتري لها حقيبة ظهر دورا. و منذ أشهر و أنا أكتفي بالوعود و الوعود و لا شيء غير الوعود.

إلى أن أتى يوم عدت فيه من العمل، لتعترض طريقي و أنا صاعد بابتسامة و تساؤل

أبي هل جلبت لي دورا

لأجيبها بتأفف و ككل يوم

غدا غدا سأشتري لك دورا غدا

رمقتني بنظرة عتاب و لوم و قد اختفت عن وجهها ابتسامة الفرحة بقدومي ثم قذفتني بكلمة كانت أرهب علي من جبال الشعانبي:

أبي أنت كاذب

لتتبخر في غرفتها مستسلمة للبكاء

توقف الزمن للحظة

توقف طويلا، حتى خلت أنه عزف عن السير رأفة بي و شفقة علي

لم أعد أرى من حولي غير الظلال

ظلال بلا أجسام

دورا شخصية من انتاج شركة نيكولاديان، هدفها البيداغوجي ،في نسختها العربية،هو تعليم الأطفال اللغة الانقليزية.

دورا بابتسامتها و قصة شعرها أسرت قلب ابنتي، حتى صارت لا ترى سواها و لا تحلم بسواها، و أكبر أمنياتها هو أن تكسب حقيبتها.

في الروضة، رفيقاتها يتباهين بحقائبهن و أقلامهن و كراريسهن و ثيابهن الموسومة جميعها بصور دورا.

في الشارع، وعند كل حاشية، و في كل زاوية لا بد أن تجد ورقة مهملة ملقية كانت لبسا لقطعة حلوى أو قطعة شكولاطة أو لعبة، و قد وسمت هي الأخرى برسم لدورا.

في البيت أو في أي مكان مغلق يتوفر فيه التلفاز ، و بين البرنامج و الآخر ،لا بد من ومضة اشهارية لمنتوجات دورا.

أينما حلت ابنتي، و أينما أجالت ببصرها، كانت دورا تحتويها و تبتسم لها .

أرغموها على حب دورا

و أرغموني على كرهها

جلت معظم المكتبات و المغازات في سوسة، علني أجد حقيبة دورا، لكنها مفقودة لكثرة الطلب عليها، و إن وجدت فليس لثمنها سبيل. ليست ابنتي الوحيدة المغرومة بدورا، بل كل جيلها مفتون بها و بمشتقاتها.

دورا صارت (أو ربما كانت منذ أن صنعت مع سبق الإصرار و الترصد) تجارة رابحة. أحلام الصغار، صارت تجارة، فيها الربح و الخسارة، تربح فيها الشركات و نخسر نحن البراءة

ما ذنبي أنا إن كنت في آخر حلقة من السلسلة التجارية، هم يفكرون و ينتجون و أنا في آخر السلم الغذائي علي أن أدفع و أستهلك من دون أن أعمل مادتي الشخمة التي أثقلت كاهلي.

لم يعد العالم حرا كما كان (أو كما أحسب أنه كان).

حتى أحلام الأطفال صاروا يتحكمون بها، مصنعين لجيل المستقبل، مستقبلا نكون نحن فيه غداءهم و عشاءهم. و هم ، من يقررون لنا أحلامنا و كوابيسنا، مسطرين لنا في كل مرحلة عمرية لائحة بأسماء  الأعلاف القابلة للإستهلاك.

يبدو أنني لم أكن أفضل حالا من ابنتي، فحين أرجع إلى ذكريات الطفولة باحثا عن الشخصيات التي تأثرت بها و تعلقت بها، أجد أسماءا مثل جنقر ، ساسوكي، بال و سيباستيان ، السنافر، نقار الزهواني، الأميرة النائمة، حمرا حمرا، الكابتن ماجد و غيرهم. كل تلك الشخصيات و القصص و المسلسلات الكرتونية المستوردة التي تربينا عليها و كونت شخصياتنا ، وصفها ‘مثقفونا’ و ‘مبدعو’ ‘هذا الوطن’، بالثقافة العالمية التي ‘يجب’ علينا الإطلاع عليها و نتربى عليها، مستقيلين من دورهم في إرساء ثقافة وطنية و زرعها في النشئ، مسلمين بذلك مقاليد الحكم للآخر الغريب، ليصنعوا أجيالا متواترة من الغرباء في وطنهم.

أولئك المثقفون و المبدعون، و ما أكثرهم، لا أراهم إلا مجموعة من الفاشلين العاجزين، مستكرشين بإسم الثقافة و رزمة الشهائد و الأوسمة و النياشين التي يتهادون بها.

إنهم عسكر هذا الوطن، المدافعين عن غربة الوطن

أتساءل أين وزارة الثقافة،

أين وزارة التربية

أين وزارة الشباب من كل هذا

هل تراثنا و تاريخنا القديم في الزمن قدم التاريخ ذاته، لا يحتوي على شخصيات تصلح قدوة لصغارنا، و هل صارت شركة نيكولاديان و اعتماداتها المالية أضخم من مصروف سيارات سادتي الوزراء، أو أغلى من ثمن المكيفات التي يبردون بها صلعهم صيفا، و يدفؤون بها مؤخ…. شتاءا؟

و هل مبتكرو شخصية دورا هم أكثر ذكاءا و موهبة من موهوبينا،
أم أنها لعنة الإدارة، و عقلية ‘حطان العصا في العجلة’ و عدم تداول المعلومات بين الإدارات و الوزارات، و أطنان الأوراق اللازمة لإقامة مشروع هي ما جعل مبدعينا يعزفون عن الإقدام في مجال الأفلام الكرتونية و جعلها صناعة متععدة المجالات.

أليس تشجيع شركات مثل شركة CGS صاحبة سلسلة تونس 2050، و توفير الإعتمادات المالية و اللوجستية  لإنتاج سلسلة كرتونية تعنى بالشخصيات التونسية مثل حنبعل، عليسة، أو أمي سيسي، بنت دنو، بوشكارة … تربي الطفل، على القيم التونسية، و تعمق فيه شعوره بالانتماء، و مفاضلتها في الفضاءات الإعلامية على السلع المستوردة، من كرتونيات تعلم العنف و تدعو إلى كل ما هو انحلال أخلاقي، هي  أم الأولويات؟

ألا يعتبر ذلك فاتحة لصناعة محلية، يمكن بها تحديد أحلام أطفالنا و دعم اقتصاد هش.

يبدو أنهم أكثروا من التسميات حتى يرمي كل منهم المسؤولية للآخر، فيضيع دمنا و جهلنا و تجهيلنا هدرا بين قبائل الوزارات و قلاع الأحزاب.

أولئك المسؤولون المستكرشون، جالسين من وراء مكاتبهم، ساهرين على بقاء نظام الجهل و التجهيل حيا يرزق، يبدو أنهم لم يعدموا وسيلة لإبقاء عصا موسى قائمة، حتى بتجويعنا و جعلنا نلهث و راء رغيف الخبز. لقد نكلوا بنا و بوعينا، حتى صار أكبر همنا زيادة في المهية و مطالب لا ترتقي إلى رسالتنا الأولية: التربية و التوعية.

جوعونا، فجهلونا لنصير بمشيئتنا أو بغيرها متمعشين من الفساد.

ما زلت أتذكر الأيام الأولى من الثورة، حين كانوا يعتمدون من أجل ترويضنا على الشائعات من قبيل أنه لن تكون هناك مهية في الشهر القادم بسبب ‘البلاد داخلة في حيط’، و كيف كان يعترينا الخوف من الخبر، فنهرع إلى أقسامنا مذعنين لأصحاب ‘القرار’، متظاهرين بالوطنية، مملوءة حناجرنا بكلمات الشابي ‘فلا عاش في تونس من خانها’ و نحن نعلم في قرارة أنفسنا أننا سنكون أول المتضررين من سقوط نظام الفساد و الخيانة.

لقد ساهمنا ( في مجملنا) نحن المربون في تسليط عصا موسى فوق ظهورنا، انتهازية البعض، لا مبالاة البعض و يأس البعض الآخر، هو ما أعطى نفسا جديدا لنظام الجهل و التجهيل بعد طوفان الثورة.

لقد جهلونا حتى صرنا من مناصريهم، بشقهيم (وزارة و نقابة : وجهان لعملة واحدة) مدافعين عنهم و عن منظومتهم، مصنعين لجيل جديد من مستهلكين بلا أدمغة.

وزارة تربية بلا تربية

وزارة ثقافة بلا ثقافة

وزارة شباب بلا شباب

وزارات هي أقرب للشركات بمحاصصاتها الحزبية و وفاقتها الايديولوجية، لتبقى أحلام ابنتي سهما في سوق المضاربات العالمية يتاجر بها أصحاب القرار من وراء البحار.

 أعذريني ابنتي، إن كانت أولويتي توفير كيلوغرام من اللحم أول كل شهر، متناسيا حاجتك لمن يرعى خيالك و يزرع فيه هويتك و انتماءك لهذا الوطن.

أعذريني فأنا لست غير آلة تعليب في سلسلة صناعة الجهل، أنتج عاهات الجيل القادم، غذاء وحوش الشركات العالمية المسيطرة على مقدراتنا و أحلامنا و كوابيسنا.

أعذريني إن كنت كاذبا و لم تقدر مهيتي على توفير ما تحلمين به، لكن من وراء كذبي نية حسنة و محاولة لعتقك من براثن الثقافة العالمية التي ‘نورتنا’ لأجيال.

لقد بحثت عن من يشاطرني الرأي،

عن مثقفين غير المثقفين

مثقفين خارجين عن السياق

خارجين عن القانون، القانون الذي تحتكم إليه منظومتنا (نسخ و لصق :copier/coller) و اشتريت لك هذا الكتاب “وحوش خرافية تونسية” للمبدع التونسي ياسين بالليل. ربما ساهمت تلك الرسوم و تلك الوحوش التونسية في طرد غربتك الناشئة و عمقت فيك أقصوصاتها الشعبية شعورك بالإنتماء لهذا الوطن.

شكرا سيدي ياسين بالليل على مجهودك و عطائك

أما أنتم، بوزارتكم و نقاباتكم، فاعلموا أنكم تؤسسون لدولة بلا وطن، و اعلموا أنه سيأتي يوم تفيقون فيه على شتاء ثورة تحرق أوراقكم، و تهدم بنيانكم لتؤسس دولة الوطن. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.